القرائن ...
#
المجامي برهان جلال شعبان
في الفقه الوضعي:
القرينة هي الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من واقعة معينة.
والاستدلال بالقرائن هو استنتاج واقعة مجهولة من واقعة معلومة.
أقسام القرائن:
تنقسم القرائن إلى قرائن إقناعية أو فعلية وقرائن قانونية.
القرائن الاقناعية:
هي ما يترك تقديرها للقاضي يستنتج منها ما يطابق عقله ويرتاح إليه ضميره.
القرائن القانونية
هي التي يلزم الشارع بها القاضي ليستنتج منها دائماً نتيجة معينة فلا يجوز للقاضي أن يرى غير ذلك.
كاشتراط سن معينة للتمييز. فكل شخص يبلغ هذه السن يعتبر مميزاً ومن لم يبلغها يعتبر غير مميز.
وقد قيل بأن القرائن الفعلية أو الإقناعية هي دليل بينما القرائن القانونية ليست دليلاً، بل هي إعفاء المكلف بالإثبات من تقديم الدليل، ولكن في الحقيقة لا يوجد فرق بين الإثنين من هذه الوجهة، لأنه في كليهما يجب أولا إثبات الوقائع التي تعتبر قرائن، وإنما الفرق الحقيقي بينهما أن القاضي له حق تقدير تلك الوقائع في القرائن الفعلية ولكن ليس له حرية تقديرها في القرائن القانونية.
وتنقسم القرائن القانونية إلى قرائن مؤقّتة أو بسيطة وقرائن قطعية، أو مطلقة، فالأولى هي ما تقبل إثبات العكس ولكنها تبقى قائمة إلى أن يقوم الدليل على عكسها، كوجود أجنبي في بيت مسلم في المحل المخصص للحريم فإنه يعتبر قرينة على الزنا، ولكن يجوز للمتهم أن يثبت أن وجوده كان لسبب آخر.
والثانية هي ما لا تقبل إثبات العكس كحالة السن، فإنه مهما ثبت تمييز الشخص الذي لم يبلغ سبع السنين فإنه لا يمكن أن يعاقب.
في الشريعة الاسلامية
القرينة مأخوذة من المقارنة وهي المصاحبة. وقد تكون دلالتها قوية أو ضعيفة على حسب قوة المصاحبة وضعفها وقد ترتقى إلى درجة القطع أو تهبط إلى درجة الاحتمال البعيد جداً بحيث تصبح ولا يعبأ بها المرجع في ضبطها إلى قوة الذهن والفطنة واليقظة.
من ذلك قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته ولم ينكرها بل لم يعبه بل حكاها مقرراً لها فقال تعالى: "واستبقا الباب وقدت قميصه من دبرٍ وألفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم". فتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب. وهذا لوث في أحد المتنازعين يبين به وجه الحق.
وفي موضع آخر:
البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان. وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان مفرده ومجموعه.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعى" المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة. ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة _قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعى فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد. والبينة والدلالة والحدة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى.
وقد أخذ بالقرائن في أحوال كثيرة. سرد ابن القيم كثيراً منها: ونذكر بعضها:
1_ اللقيط إذا ادعاه اثنان ووصفه أحدهما بعلامة خفية بجسده حكم له به عند الجمهور.
2_ قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للظعينة التي حملت كتاب حاطب فأنكرته فقال لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أخرجته من عقاصها. وعلى هذا إذا ادعى الخصم الفلس وأنه لا شيء معه فقال المدعي للحاكم المال معه وسأل تفتيشه وجب على الحاكم إجابته إلى ذلك ليصل صاحب الحق إلى حقه.
3_ جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمداً عدواناً وهو لم يقل قتلتُه عمداً والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها ويراق دم القاتل بشهادته اكتفاء بالقرينة الظاهرة.
ونتكلم بعد ذلك عن القرائن في جرائم الزنا وشرب الخمر والسرقة.
أولا: القرائن في جريمة الزنا
أجمع الفقهاء على أن الزنا يثبت بالإقرار وبالشهادة. أما ثبوت الزنا على المرأة إذا وجدت حاملا بدون زواج ولا شبهة الزواج فقد اختلف فيه الفقهاء.
فقال البعض: منهم أبو حنيفة والشافعي لا تحد. وقال مالك: عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر أمارات الإكراه عليها بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه: الرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
وروى في الموطأ عن الإمام مالك قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه أتى بامرأة ولدت في ستة أشهر فأمر برجمها. فقال له عليّ ما عليها رجم، لأن الله تعالى يقول: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وقال: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" فالحمل يكون ستة أشهر فلا رجم عليها. فأمر عثمان بردها. فوجدت قد رجمت.
وروى عن الإمام علي أنه قال: يأيها الناس إن الزنا زناءان، زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمى، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي وهذا قول سائر الصحابة.
وقال الحنابلة: لا تحد المرأة بالحمل لانه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات. ورد في المعنى:
وقد قيل إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر ووجد ذلك.
وفي الحقيقة لا خلاف جوهرياً بين الرأيين.
فإن ثبت أن الزنا كان بالإكراه فلا حد وفقاً للأصول الشرعية المعروفة في أي من المذاهب.
وإن كانت المرأة بكراً فلا حد أيضاً وذلك لأن الزنا منها يوجب المباشرة والوطء. والوطء من أهم الأركان التي تستوجب العقوبة في جريمة الزنا والوطء الذي يوجب الحد هو إيلاج الحشفة وتغيبها في الفرج أو قدرها من مقطوعها وهو ما لم يحدث في هذه الحالة.
يبقى أن تكون المرأة حاملاً ثيباً غير متزوجة ولم تدفع بإكراه ولا بوجه من أوجه الدفع التي توجب الشبهة وفي هذه الحالة تحد وفقاً لقول عمر ابن الخطاب.
ورد في الدسوقي على الشرح الكبير:
"يثبت الزنا بالإقرار والبينة وبظهور الحمل في امرأة غير متزوجة ولا تقبل دعواها بالغصب بلا قرينة تشهد لها بذلك ولا دعواها أن هذا الحمل من مني شربه فرجها في الحمام إلا لقرينة _مثل كونها عذراء وهي من أهل العفة أو تعلقها بالمدعى عليه سواء كان صالحاً أو مجهول الحال أو فاسقاً أي تأتي مستغيثة منه أو تأتي البكر تدمى عقب الوطء وإن لم تستغث وتقول أكرهني فلان".
ثانيا: القرائن في جريمة السرقة
تثبت جريمة السرقة بالإقرار أو بالبينة. وهما الطريقان الأصليان في إثبات هذه الجريمة. ولكن إذا لم يكن هناك شهود على واقعة اختلاس خفية ولم يعترف الجاني بالسرقة ولكن وجدت في حوزته المسروقات وأنكر سرقتها وادعى ملكيتها فهل يقطع بذلك؟
قال البعض: إن ادعاءه الملكية شبهة تسقط عنه الحد.
وقال البعض الآخر. إذا أخذنا بهذا الرأي يتطرق السراق إلى هذا الدفع ولا ينفذ حد أصلاً على السراق.
ورد في الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية:
"ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار. فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة".
ثالثا: القرائن في جريمة شرب الخمر
القاعدة أيضاً في شرب الخمر أنه يثبت بالشهادة أو بالإقرار، ولكن هل يثبت الشرب بوجود الرائحة أو القىء؟
أولا: قال البعض: لا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها إذا لم يشاهد منه الشرب أو يقر على نفسه لأن الرائحة محتملة. وكذا الشرب قد يقع عن إكراهه أو جهله أو اضطراره وهو رأي الثوري وأبي حنيفة والشافعي.
ورد في فتح القدير:
"لا حد على من وجد به ريح الخمر أو تقيأها لأن الرائحة محتملة _فلا يثبت بالاحتمال ما يندرىء بالشبهات وكذا الشرب قد يكون عن إكراه.
فوجود عينها في القىء لا يدل على الطواعية فلو وجب الحد وجب بلا موجب وأورد عليه أنه قال من قريب والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل فقطع بالاحتمال. وهنا عكس. قال: قال الماوردي: وتكلف بعضهم في توجيهه: يريد به صاحب النهاية: بأن الاحتمال في نفس الروائح قبل الاستدلال، والتمييز بعد الاستدلال على وجه الاستقصاء. قال: ولقائل أن يقول إذا كان التمييز يحصل بالاستدلال فإذا استدل على الوجه المذكور في هذه الصورة يرتفع الاحتمال في الرائحة فينبغي أن يحد حينئذ ولم يقل به أحد".
ثانياً: وقال البعض: يطبق الحد على مثل هذا الشخص اعتماداً على القرينة الظاهرة وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه وحكم به عمر وابن مسعود.
روى الموطأ والنسائي عن السائب بن يزيد قال: إن عمر قال: وجدت من فلان ريح شراب _يعني بعض بنيه _ وزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عنه. فإن كان يسكر جلدته فسأل فقيل له: إنه يسكر، فجلده عمر الحد تاماً. أخرجه الموطأ.
وأخرج مسلم وأبو داود عن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان ابن عفان أتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران، أنه شرب الخمر، وشهد آخر. أنه رآه يتقيأ فقال عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده _ وعلي يعد حتى بلغ أربعين.
رابعاً: القرائن في جريمة القتل
الأصل في القتل أنه يثبت بالشهادة أو بالإقرار فهل يثبت بالقرينة؟ لا يثبت القتل إلا بهذه الأدلة وإنما يجوز أن تكون القرينة لوث يجوز لولي القتل أن يطلب القسامة.
ورد في الطرق الحكمية:
"هل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله ولا سيما إذا عرف بعداوته. ولهذا جوز جمهور الفقهاء لولي القتيل أن يحلف خمسين يميناً أن ذلك الرجل قتله. ثم قال مالك وأحمد: يقتل به وقال الشافعي: يقضي عليه بديته".
"من القرائن أن ابني عفراء لما ادعيا قتل أبي جهل قال صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال: "كلاكما قتله".
وورد فيها أيضاً:
"ومن ذلك جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمداً عدواناً محضاً وهو لم يقل قتلتُه عمداً والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها ويراق دم القاتل بشهادته اكتفاء بالقرينة الظاهرة".
خامساً: القرائن في جريمة القذف:
كذلك جريمة القذف قد تثبت بالقرائن.
ورد في الدسوقي:
"إذا قال زنت عينك لا فرجك يؤدب أي لكثرة جهات العفة ما لم تقم قرينة على القذف أو يجري العرف باستعمال ذلك في القذف وإلا حد. والقذف مما يراعي فيه العرف بحسب كل زمان".
وقد جوز الفقهاء للرجل أن يلاعن امرأته فيشهد عليها بالزنا مؤكداً لشهادته باليمين إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل إليها ويخرج من عندها نظراً إلى الأمارات والقرائن الظاهرة.
المصدر : نظرية الاثبات في الفقه الجنائي الاسلامي
ع/الموسوعة الاسلامية
#
المجامي برهان جلال شعبان
في الفقه الوضعي:
القرينة هي الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من واقعة معينة.
والاستدلال بالقرائن هو استنتاج واقعة مجهولة من واقعة معلومة.
أقسام القرائن:
تنقسم القرائن إلى قرائن إقناعية أو فعلية وقرائن قانونية.
القرائن الاقناعية:
هي ما يترك تقديرها للقاضي يستنتج منها ما يطابق عقله ويرتاح إليه ضميره.
القرائن القانونية
هي التي يلزم الشارع بها القاضي ليستنتج منها دائماً نتيجة معينة فلا يجوز للقاضي أن يرى غير ذلك.
كاشتراط سن معينة للتمييز. فكل شخص يبلغ هذه السن يعتبر مميزاً ومن لم يبلغها يعتبر غير مميز.
وقد قيل بأن القرائن الفعلية أو الإقناعية هي دليل بينما القرائن القانونية ليست دليلاً، بل هي إعفاء المكلف بالإثبات من تقديم الدليل، ولكن في الحقيقة لا يوجد فرق بين الإثنين من هذه الوجهة، لأنه في كليهما يجب أولا إثبات الوقائع التي تعتبر قرائن، وإنما الفرق الحقيقي بينهما أن القاضي له حق تقدير تلك الوقائع في القرائن الفعلية ولكن ليس له حرية تقديرها في القرائن القانونية.
وتنقسم القرائن القانونية إلى قرائن مؤقّتة أو بسيطة وقرائن قطعية، أو مطلقة، فالأولى هي ما تقبل إثبات العكس ولكنها تبقى قائمة إلى أن يقوم الدليل على عكسها، كوجود أجنبي في بيت مسلم في المحل المخصص للحريم فإنه يعتبر قرينة على الزنا، ولكن يجوز للمتهم أن يثبت أن وجوده كان لسبب آخر.
والثانية هي ما لا تقبل إثبات العكس كحالة السن، فإنه مهما ثبت تمييز الشخص الذي لم يبلغ سبع السنين فإنه لا يمكن أن يعاقب.
في الشريعة الاسلامية
القرينة مأخوذة من المقارنة وهي المصاحبة. وقد تكون دلالتها قوية أو ضعيفة على حسب قوة المصاحبة وضعفها وقد ترتقى إلى درجة القطع أو تهبط إلى درجة الاحتمال البعيد جداً بحيث تصبح ولا يعبأ بها المرجع في ضبطها إلى قوة الذهن والفطنة واليقظة.
من ذلك قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته ولم ينكرها بل لم يعبه بل حكاها مقرراً لها فقال تعالى: "واستبقا الباب وقدت قميصه من دبرٍ وألفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم". فتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب. وهذا لوث في أحد المتنازعين يبين به وجه الحق.
وفي موضع آخر:
البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان. وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان مفرده ومجموعه.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعى" المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة. ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة _قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعى فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد. والبينة والدلالة والحدة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى.
وقد أخذ بالقرائن في أحوال كثيرة. سرد ابن القيم كثيراً منها: ونذكر بعضها:
1_ اللقيط إذا ادعاه اثنان ووصفه أحدهما بعلامة خفية بجسده حكم له به عند الجمهور.
2_ قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للظعينة التي حملت كتاب حاطب فأنكرته فقال لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أخرجته من عقاصها. وعلى هذا إذا ادعى الخصم الفلس وأنه لا شيء معه فقال المدعي للحاكم المال معه وسأل تفتيشه وجب على الحاكم إجابته إلى ذلك ليصل صاحب الحق إلى حقه.
3_ جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمداً عدواناً وهو لم يقل قتلتُه عمداً والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها ويراق دم القاتل بشهادته اكتفاء بالقرينة الظاهرة.
ونتكلم بعد ذلك عن القرائن في جرائم الزنا وشرب الخمر والسرقة.
أولا: القرائن في جريمة الزنا
أجمع الفقهاء على أن الزنا يثبت بالإقرار وبالشهادة. أما ثبوت الزنا على المرأة إذا وجدت حاملا بدون زواج ولا شبهة الزواج فقد اختلف فيه الفقهاء.
فقال البعض: منهم أبو حنيفة والشافعي لا تحد. وقال مالك: عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر أمارات الإكراه عليها بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه: الرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
وروى في الموطأ عن الإمام مالك قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه أتى بامرأة ولدت في ستة أشهر فأمر برجمها. فقال له عليّ ما عليها رجم، لأن الله تعالى يقول: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وقال: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" فالحمل يكون ستة أشهر فلا رجم عليها. فأمر عثمان بردها. فوجدت قد رجمت.
وروى عن الإمام علي أنه قال: يأيها الناس إن الزنا زناءان، زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمى، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي وهذا قول سائر الصحابة.
وقال الحنابلة: لا تحد المرأة بالحمل لانه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات. ورد في المعنى:
وقد قيل إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر ووجد ذلك.
وفي الحقيقة لا خلاف جوهرياً بين الرأيين.
فإن ثبت أن الزنا كان بالإكراه فلا حد وفقاً للأصول الشرعية المعروفة في أي من المذاهب.
وإن كانت المرأة بكراً فلا حد أيضاً وذلك لأن الزنا منها يوجب المباشرة والوطء. والوطء من أهم الأركان التي تستوجب العقوبة في جريمة الزنا والوطء الذي يوجب الحد هو إيلاج الحشفة وتغيبها في الفرج أو قدرها من مقطوعها وهو ما لم يحدث في هذه الحالة.
يبقى أن تكون المرأة حاملاً ثيباً غير متزوجة ولم تدفع بإكراه ولا بوجه من أوجه الدفع التي توجب الشبهة وفي هذه الحالة تحد وفقاً لقول عمر ابن الخطاب.
ورد في الدسوقي على الشرح الكبير:
"يثبت الزنا بالإقرار والبينة وبظهور الحمل في امرأة غير متزوجة ولا تقبل دعواها بالغصب بلا قرينة تشهد لها بذلك ولا دعواها أن هذا الحمل من مني شربه فرجها في الحمام إلا لقرينة _مثل كونها عذراء وهي من أهل العفة أو تعلقها بالمدعى عليه سواء كان صالحاً أو مجهول الحال أو فاسقاً أي تأتي مستغيثة منه أو تأتي البكر تدمى عقب الوطء وإن لم تستغث وتقول أكرهني فلان".
ثانيا: القرائن في جريمة السرقة
تثبت جريمة السرقة بالإقرار أو بالبينة. وهما الطريقان الأصليان في إثبات هذه الجريمة. ولكن إذا لم يكن هناك شهود على واقعة اختلاس خفية ولم يعترف الجاني بالسرقة ولكن وجدت في حوزته المسروقات وأنكر سرقتها وادعى ملكيتها فهل يقطع بذلك؟
قال البعض: إن ادعاءه الملكية شبهة تسقط عنه الحد.
وقال البعض الآخر. إذا أخذنا بهذا الرأي يتطرق السراق إلى هذا الدفع ولا ينفذ حد أصلاً على السراق.
ورد في الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية:
"ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار. فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة".
ثالثا: القرائن في جريمة شرب الخمر
القاعدة أيضاً في شرب الخمر أنه يثبت بالشهادة أو بالإقرار، ولكن هل يثبت الشرب بوجود الرائحة أو القىء؟
أولا: قال البعض: لا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها إذا لم يشاهد منه الشرب أو يقر على نفسه لأن الرائحة محتملة. وكذا الشرب قد يقع عن إكراهه أو جهله أو اضطراره وهو رأي الثوري وأبي حنيفة والشافعي.
ورد في فتح القدير:
"لا حد على من وجد به ريح الخمر أو تقيأها لأن الرائحة محتملة _فلا يثبت بالاحتمال ما يندرىء بالشبهات وكذا الشرب قد يكون عن إكراه.
فوجود عينها في القىء لا يدل على الطواعية فلو وجب الحد وجب بلا موجب وأورد عليه أنه قال من قريب والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل فقطع بالاحتمال. وهنا عكس. قال: قال الماوردي: وتكلف بعضهم في توجيهه: يريد به صاحب النهاية: بأن الاحتمال في نفس الروائح قبل الاستدلال، والتمييز بعد الاستدلال على وجه الاستقصاء. قال: ولقائل أن يقول إذا كان التمييز يحصل بالاستدلال فإذا استدل على الوجه المذكور في هذه الصورة يرتفع الاحتمال في الرائحة فينبغي أن يحد حينئذ ولم يقل به أحد".
ثانياً: وقال البعض: يطبق الحد على مثل هذا الشخص اعتماداً على القرينة الظاهرة وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه وحكم به عمر وابن مسعود.
روى الموطأ والنسائي عن السائب بن يزيد قال: إن عمر قال: وجدت من فلان ريح شراب _يعني بعض بنيه _ وزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عنه. فإن كان يسكر جلدته فسأل فقيل له: إنه يسكر، فجلده عمر الحد تاماً. أخرجه الموطأ.
وأخرج مسلم وأبو داود عن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان ابن عفان أتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران، أنه شرب الخمر، وشهد آخر. أنه رآه يتقيأ فقال عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده _ وعلي يعد حتى بلغ أربعين.
رابعاً: القرائن في جريمة القتل
الأصل في القتل أنه يثبت بالشهادة أو بالإقرار فهل يثبت بالقرينة؟ لا يثبت القتل إلا بهذه الأدلة وإنما يجوز أن تكون القرينة لوث يجوز لولي القتل أن يطلب القسامة.
ورد في الطرق الحكمية:
"هل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله ولا سيما إذا عرف بعداوته. ولهذا جوز جمهور الفقهاء لولي القتيل أن يحلف خمسين يميناً أن ذلك الرجل قتله. ثم قال مالك وأحمد: يقتل به وقال الشافعي: يقضي عليه بديته".
"من القرائن أن ابني عفراء لما ادعيا قتل أبي جهل قال صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال: "كلاكما قتله".
وورد فيها أيضاً:
"ومن ذلك جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمداً عدواناً محضاً وهو لم يقل قتلتُه عمداً والعمدية صفة قائمة بالقلب فجاز للشاهد أن يشهد بها ويراق دم القاتل بشهادته اكتفاء بالقرينة الظاهرة".
خامساً: القرائن في جريمة القذف:
كذلك جريمة القذف قد تثبت بالقرائن.
ورد في الدسوقي:
"إذا قال زنت عينك لا فرجك يؤدب أي لكثرة جهات العفة ما لم تقم قرينة على القذف أو يجري العرف باستعمال ذلك في القذف وإلا حد. والقذف مما يراعي فيه العرف بحسب كل زمان".
وقد جوز الفقهاء للرجل أن يلاعن امرأته فيشهد عليها بالزنا مؤكداً لشهادته باليمين إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل إليها ويخرج من عندها نظراً إلى الأمارات والقرائن الظاهرة.
المصدر : نظرية الاثبات في الفقه الجنائي الاسلامي
ع/الموسوعة الاسلامية